فن الخطابة في العصر الاموي
في العصر الاموي ( 40 – 132 هـ )(661 – 750 م) ازدهرت الخطبة بحيث كانت البوق الاعلامي للدولة الاموية وخصومها على السواء . والواقع ان الدولة الاموية وعصرها يمثلان نموذجا للعجب ، فتلك الدولة التي عاشت اقل من قرن هي التي امتدت فيها الفتوحات العربية فيما بين حدود الهند والصين شرقا إلى جبال البرانس جنوب فرنسا ، ودمرت اسطول البيزنطيين واحتلت بعض جزر البحر المتوسط .. هذا في الوقت الذي عاشت فيه الدولة الاموية حروبا هائلة في الداخل ضد خصومها من الخوارج والشيعة والموإلى والاقباط والبربر ، ومن الهاشميين والزبيريين وحتي من داخل الجيش الاموي نفسه ، مثل ثورة ابن الاشعث وثورة المهالبة ، وحتي من داخل البيت الاموي نفسه ، وهكذا إلى ان جاء الخطر الاكبر على الدولة متمثلا في الدعوة العباسية لتقضي على الدولة الاموية في ريعان شبابها بعد ان اجهدت نفسها في حروب داخلية وفتوحات خارجية .. وهذا الضجيج الحربي في الداخل والخارج يمكن ارجاعه إلى عامل اساسي هو قيام الامويين في تحويل الشوري الاسلامية (ديمقراطية العصر انذاك) الى حكم استبدادي قهري عنيف ، وتحويل الانتماء من الدين إلى الانتماء إلى العصبية العربية القبلية ، وقد حاول الامويون شغل المسلمين العرب عن هذا بالفتوحات، الا ان الخروج على الدولة استمر مقترنا بحركة الفتوحات احيانا مما ادي إلى اسقاطها في النهاية .. والدولة الاموية هي التي تمثل الثقافة العربية الاصيلة ، هذا اذا اعتبرنا الثقافة هي النمط السائد للسلوكيات والعادات والتقاليد الاجتماعية ، ولذلك ازدهر مع الضجيج الحربي والخلافات والثورات دخول اسلحة اخري في ميدان المعارك كان اهمها الشعر، والخطابة، وكانت مؤهلات القائد اذا كان الخليفة او واليا او ثائرا ان يتمتع بالشجاعة والكرم والفصاحة وتذوق الشعر ونظمه ، مثلما اعتاد العرب في صحرائهم. وتلك الحركة المستمرة في الغزو او في الثورة والمواجهات الداخلية لم تعط فرصة كافية لقيام حركة تدوين للافكار السائدة او المعارك الضارية ، لذلك فان التأريخ لهذه الدولة الاموية قد تم بعد سقوطها وفي عهد الخلافة العباسية المعروفة بعدائها الشديد للامويين. وغياب التدوين وعدم الاهتمام الكبير بالمراسلات الخطية اوسع مكانا هاما للخطبة الشفهية المعبرة عن الروح الاصيلة للعربي الذي كان يفاخر وقتها بفصاحته وشجاعته ، او بأنه يملك فصاحة اللسان وشجاعة السنان . ومن هنا يمكن القول بأن الخطبة كانت اهم عنصر دعائي في العصر الاموي للخليفة او الوالي او الثائر على السواء … بحيث يمكن التأريخ للعصر وتفسيره من خلال الكم الهائل من الخطب التي قيلت فيه وقامت بالدعاية لقائل الخطبة واتباعه . ونتج عن طغيان الهدف الدعائي على الخطبة ، ان تحولت الخطبة الدينية ( خطبة الجمعة ) إلى خطبة سياسية . وبعد زوال الدولة الاموية لم ينته تحويل خطب الجمعة إلى غرض سياسي ، بل اصبح من شعائر الاعتراف بالحاكم هو الدعاء له في خطبة الجمعة ، ولا زال ذلك ساريا حتي الان . وقد سبق ان خطبة الجمعة في عصر الرسول كانت قراءة القرآن وتفسيره، أي كانت خطبة دينية صرفة ، ولكن تحولت في الدولة الاموية إلى خطب سياسية صرفة.
وبازدهار الخطب السياسية الدعائية فقد عرف العصر الاموي ما يمكن تسميته بالمناظرات الخطابية ، حيث كانت الخطبة تحل محل السلاح في موضع لا مجال فيه لاستعمال هذا الاخير، وحينئذ يتم التحارب بالخطب بديلا عن السلاح .
وحدثت الكوارث في الدولة الاموية بتولي يزيد الخلافة بعد ابيه معاوية ، كأول عملية وراثة للحكم في تاريخ المسلمين ، بعد نظام الشورة. وكي يمهد معاوية لهذا الامر الخطير فقد اقام حركة دعائية ضخمة عن طريق ولاته وكبار اتباعه وقادته ، وجري في هذه الحركة ما يمكن تسميته بمهرجان الخطب التي تباري فيها المتحدثون في تزكية يزيد وتأييد ولايته.
وفي المواقف الهامة في التاريخ الاموي اشتهرت بعض الخطب . ومنها خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية حين اعلن تنازله عن الخلافة الامر الذي ادي إلى تفكك الدولة وحروب اهلية وموت الخليفة المعتزل نفسه ، وقد قال في خطبته ( قد ضعفت عن امركم ، ولم اجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ، ولا مثل اهل الشورة، فأنتم اولي بأمركم فاختاروا من احببتم) . وكذلك خطبة عبد الملك بن مروان في اهل المدينة ( يا معشر قريش ، وليكم عمر بن الخطاب فكان فظا غليظا مضيقا علىكم فسمعتم له واطعتم ، ثم وليكم عثمان فكان سهلا لينا كريما فعدوتم علىه فقتلتموه ، وبعثنا علىكم مسلما يوم الحرة فقتلكم ، فنحن نعلم يا معشر قريش انكم لا تحبوننا ابدا وانتم تذكرون يوم الحرة ، ونحن لا نحبكم ابدا ونحن نذكر مقتل عثمان ).
واشتهر الحجاج بن يوسف الثقفي بالشدة مع الفصاحة ، وخطبه كثيرة ، منها خطبته حين قدم الكوفة فاتاها ملثما وصعد المنبر وحسر اللثام عن وجهه و انشد : انا ابن جلا وطلاع الثنايا متي اضع العمامة تعرفوني ثم بدأ يقول ( اني والله لأري ابصارا طامحة واعناقا متطاولة ،ورءوسا قد اينعت وحان وقت قطافها واني صاحبها ..). ومنها خطبة طارق بن زياد حين احرق السفن بعد ان عبر إلى اسبانيا ، ذلك المضيق الذي سمي باسمه فيما بعد ، قال ( ايها الناس : اين المفر ؟ البحر من ورائكم والعدو امامكم وليس لكم والله الا الصدق والصبر ، واعلموا انكم في هذه الجزيرة اضيع من الايتام في مأدبة اللئام ، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه في اسلحته واقواته الموفورة وانتم لا وزر لكم الا سيوفكم ولا اقوات لكم الا ما تستخلصونه من ايدي عدوكم ..). وهذا التأثير الكبير للخطبة في العصر الاموي وصل إلى سرير الزوجية في ليلة الزفاف ، يحكي شريح اشهر قاضي في العصر الاموي انه ليلة ان دخل بزوجته التميمية وخلا البيت يقول ( فمددت يدي ناحيتها فقالت : على رسلك يا ابا امية كما انت، ثم قالت : الحمد لله احمده واستعينه واصلي على محمد واله ، اني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآته وما تكرهه فازدجر عنه .. ، يقول القاضي ( فأحوجتني والله إلى الخطبة في ذلك الموضع ، فقلت الحمد لله احمده واستعينه واصلي على النبي واله وسلم ، وبعد فانك قد قلتي كلاما ان تثبتي عليه يكن ذلك حظك وان تدعيه يكن حجة عليك ، احب كذا ..).
هكذا نرى ان الخطابة السياسية وجدت جذورها وترعرت في اطار الدولة الاموية واصبحت الخطب مثالا يحتذى به في العصور اللاحقة.
المصادر:
- جذور الخطاب السياسي العربي - د. احمد سعيد العيطاني
- الرسالة الاعلامية العربية الموجهة الى الخارج - د. الياس المدني (ترجمة)